جريدة جريدة وطني

الإذاعة يا جماعة

نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
الإذاعة يا جماعة, اليوم الثلاثاء 19 نوفمبر 2024 04:40 مساءً

في عصر التحولات الإعلامية والمنصات الرقمية، يبدو الحديث عن الإذاعة ضربا من ترف الجهلاء.. من مثلي لا يعرف أن فكرة إنشاء الإذاعة السعودية تعود إلى الملك سعود بن عبدالعزيز رحمه الله حين كان وليا للعهد، حيث عرض الفكرة على الملك عبدالعزيز، طيب الله ثراه، الذي وافق على تنفيذها، وتأسست أول محطة إذاعية في جدة، وبدأ بثها في 9 ذي الحجة 1368هـ (1 أكتوبر 1949م)، حيث أُلقيت كلمة من الأمير فيصل نيابة عن الملك المؤسس، وتضمنت تهنئة الحجيج بمناسك الحج والترحيب بقدومهم في الأراضي المقدسة، ومنذ ذلك الزمن وعلى مدار 75 عاما، لعبت الإذاعة السعودية دورا محوريا في توجيه الوعي الجمعي عبر مختلف الأجيال.

ما دفعني للكتابة عن الإذاعة السعودية SBA لم يكن افتقارا للإلمام بالتطورات الحديثة، بل تلك التجربة الغنية التي عايشتها خلال زيارتي لمقر الإذاعة. جاءت الدعوة للمشاركة في البرنامج الحواري "نقاش"، الذي يقدمه الإعلامي المتألق عزام الحديدي، وكانت لحظة استثنائية بدأت باستقبال حافل من الأستاذ محمد العجلان، المسؤول عن إعداد البرامج وصناعة المحتوى في إذاعة جدة. ذلك الترحيب، الذي يعكس احترافية ومهنية فريق العمل، أعاد إليّ الإحساس بقيمة الإذاعة كمنصة عريقة. تجولت بين الأدوار ودخلت الأستوديوهات، استقبلنا المسؤولون من أقسام مختلفة مثل: إدارة المنصات الالكترونية، الرقابة، إذاعة القرآن الكريم، إذاعة جدة، ثم الإذاعات الموجهة لدول مختلفة... لأتفاجأ بحجم الإمكانات المتاحة للإذاعة الحكومية.. هناك حوالي 10 إذاعات دولية موجهة و8 محلية، منها إذاعة جديدة اسمها "خزامى" أطلقتها هيئة الإذاعة والتلفزيون حديثا... وهناك العديد من الإذاعات الخاصة التي منحتها وزارة الإعلام رخص البث في القطاع الخاص بالسعودية.

أما عن علاقتي بالراديو، فأعترف بخجل أنني كنت ممن يكتفون بالاستماع إلى محطات الإذاعة الخاصة أثناء التنقل بالسيارة، دون أن أعي مدى تنوع هذه المحطات أو الجهد الكبير المبذول خلف الكواليس. هذا الجهد يواجه تحديات غير مسبوقة، أبرزها التنافس الشديد مع منصات البودكاست والتطبيقات الرقمية، إضافة إلى تقلص نسب الاستماع التقليدي، خاصة بين الفئات الشابة. ورغم هذه التحديات، تُظهر الإحصائيات أن الإذاعة لا تزال تحظى بمكانة مهمة في المملكة. فحوالي 50% من السعوديين يعتمدون عليها كمصدر رئيسي للمعلومات والأخبار، في حين يفضل 75% منهم الاستماع إلى المحطات المحلية، التي تحافظ على جاذبيتها رغم انتشار الوسائط الرقمية.

بالمقابل، أصبح البودكاست منافسا قويا، حيث يستمع إليه نحو 5.1 ملايين شخص بانتظام في السعودية. ويبرز هذا الاتجاه بشكل خاص بين الفئة العمرية 25 - 34 عاما، التي تميل إلى المحتوى الرقمي بفضل تنوعه وسهولة الوصول إليه، مما يعكس تحولا تدريجيا نحو تفضيل المنصات الرقمية على الإذاعة التقليدية. منصات البودكاست تقدم مرونة أكبر للمستمعين وتخصيصا للمحتوى، مما يضعها في منافسة قوية مع الإذاعة التقليدية، حتى إن كانت الأخيرة أكثر قدرة على الوصول إلى شريحة واسعة من الجمهور المحلي في المناطق النائية، خاصة وقت الأزمات والكوارث.

السؤال المطروح هنا: هل يمكن تحقيق تكامل حقيقي بين الإذاعات الحكومية والخاصة، أم أن العلاقة بينهما طاردة لا تسمح بتطور أحدهما على حساب الآخر؟ وهل يتحتم على الإذاعات الحكومية أن تتحدى الزمن في ظل ضعف التأثير.. على اعتبار أن الإذاعة وسيلة لها خصوصيتها وفرصها.. وتلعب دورا كبيرا في تعزيز التراث الثقافي ونشر اللغة العربية من خلال برامجها التثقيفية. قد تكمن الإجابة في أن دور الإذاعات الحكومية والخاصة مكمل للآخر، حيث تركز الأولى على نشر الثقافة والحفاظ على التراث، بينما تقدم الثانية تنوعا يناسب الأذواق العصرية. هذا التكامل، إن تم استثماره بذكاء.. يمكن أن ينتج محتوى إعلاميا ثريا ومتنوعا يواكب تطلعات الجمهور في المستقبل.

ولنفصل في ذلك نقول: إن رؤية المملكة العربية السعودية تسعى إلى تعزيز دور الإعلام، بما في ذلك الإذاعة السعودية، لتحقيق الريادة على المستوى الإقليمي والدولي. والغاية هي تطوير قطاع الإعلام لرفع إسهامات الناتج المحلي الإجمالي ليصل إلى 47 مليار ريال بحلول عام 2030. وتشمل الاستراتيجيات التي أطلقتها هيئة الإذاعة والتلفزيون تعزيز الكفاءة الإعلامية، جذب الاستثمارات، وتنمية كوادر وطنية قادرة على المنافسة عالميا.

خلاصة القول.. إن تطوير الإعلام الإذاعي في المملكة يتطلب استثمار الذكاء الاصطناعي لفهم الجمهور، وتعزيز المحتوى الرقمي لتلبية تطلعات المستمعين على اختلاف مشاربهم، ودعم الشراكات بين القطاعين الحكومي والخاص لتنوع المحتوى. كما يستلزم تدريب الإعلاميين الشباب على الابتكار مع الحفاظ على الهوية الثقافية، لضمان إذاعة تجمع بين الأصالة والقدرة على مواكبة المتغيرات المجتمعية.

فمن يظن أن الإذاعة فقدت مكانتها، ربما لم يدرك حجم تأثيرها المتجدد، فهي إرث وطني عريق، يمثل تاريخا ممتدا من العطاء والارتباط الوثيق بالهوية السعودية. وفي ظل الحاجة الملحّة لإعادة ترسيخ مكانتها، تظل الإذاعة ركيزة أساسية، تربط الماضي بالحاضر، وتعزز التواصل بين المجتمع السعودي والعالم. استمرارية الإذاعة لا تعتمد فقط على بقائها، بل على قدرتها الذكية على التكيف مع التحولات الإعلامية عبر تعزيز مكانتها كمحور في بناء مستقبل الإعلام السعودي.

كل ما في الأمر أننا بحاجة إلى جهد ملموس أكبر.. لأن الأصالة لن تهزمها أبدا الحداثة.. فالإذاعة يا جماعة.

أخبار متعلقة :