جريدة جريدة وطني

البحر في الشارقة.. الأزرق العامر بالأرزاق والقصص

سلطان أبو شبص: رحلتنا معه جزء من الهوية 
مع كل فجر جديد، يحضر الثمانيني سلطان خليفة أبو شبص، عميد الصيادين في الشارقة، قاربه الصغير متجهاً نحو البحر؛ ليكتب فصلاً جديداً من حكايته التي بدأت قبل أكثر من 70 عاماً.
في كل مرة يبحر فيها يكون «اليم» أمامه مثل كتاب مفتوح، يعرف أسراره وخفاياه لعلاقته الأزلية بهذا الأزرق الواسع، ففي كل رحلة صيد، لا يُبحر أبو شبص، كما يناديه الصيادون وحده؛ بل ترافقه سنوات من التجارب ومئات القصص التي كتبها مع البحر. 
المكتب الإعلامي لحكومة الشارقة رافق رحلة عميد الصيادين ليبحر معه بين ذكريات المهنة العريقة وحكاياها وحكمها، ولما تجسده رحلة الصيد في الشارقة من اتصال عميق ومؤثر بين الإنسان والبحر.
ويقول أبو شبص: رحلة الصيد هي الجسر الذي يربط بين عبق الماضي، ووهج الحاضر، فروح التعاون والمثابرة التي تُميزها تعكس القيم الأساسية التي تربت عليها الأجيال، وتُبقي على التراث الحي نابضاً في قلوب كل من يشارك في هذه المغامرة البحرية.
ويضيف: «البحر ليس مجرد مسطح مائي؛ بل شريكاً في الحياة ومصدر رزق قبل ظهور النفط، وبعده ومستقبل أجيال بأكملها وتطورت هذه العلاقة لتصبح جزءاً لا يتجزأ من الهوية الوطنية، تحكي قصة شغف عميق وارتباط وثيق بين الإنسان والبحر».


قصة خالدة
وسط تلك الرمال الذهبية، يمتد البحر كعالم أزرق لا ينتهي، ليبدو نافذة سحرية تطل على أسرار الأزمنة والأماكن البعيدة، ليتناغم لقاء الأرض بالماء وتنمو علاقة الإنسان في الشارقة بالبحر والصيد كقصة خالدة معبقة بأريج الماضي الجميل لتتكرر فصولها عبر الأجيال.
عندما يبدأ أبو شبص رحلته في عرض البحر، تبدو الأمواج مع حبال شباكه بتناغم وانسجام لإتمام رحلة صيد بالنسبة له ليست مجرد عملية جمع الأسماك؛ بل هي مغامرة يومية، تكشف خبايا البحر ومكتنزاته. وهي لحظة تواصل مع الطبيعة ومع رفاقه من الصيادين الذين يتبادلون القصص والتجارب على متن القارب.
ويوجه الصيادون قواربهم بمهارة بارعة إلى المناطق الغنية بالأسماك، مستخدمين شباكهم المنسوجة بدقة، ففي كل حركاتهم معانٍ تدرس، وبين طيات شباكهم قصص تُروى وتجارب تُكتسب.
وبين معاني رحلة الصيد التي تحمل رمزاً عظيماً يربط الإنسان في الشارقة بجذور أرضه العريقة، وبساطة الحياة البحرية، تعد هذه المهنة الأصيلة مصدر الرزق والكسب والثروة القومية للبلاد.
وللحياة نبض مختلف في شرايين الساحل الهادئ، حين يلتقي الصيادون على ضفاف البحر مع بزوغ الفجر ليعج المكان بالنشاط، وتبدأ مراسم الرحلة بالحماس، فيمتزج عبق البحر بالصباح الباكر، ليخلق جواً مفعماً بالحيوية والأمل.
ويقول أبو شبص: «عادة ما يُبحر الصيادون مع الشروق، لتأخذهم قواربهم إلى المناطق الغنية بالأسماك، حاملين معهم تقاليد الأجداد وقيم التعاون التي لطالما ميّزت مجتمعهم». 
اللحظات التي يقضيها عميد الصيادين مع زملائه لا تخلو من روح الأخوة والتضامن، لتُروى قصص البحر، وتتجدد ذكريات المغامرات القديمة. وتتردد أهازيج الصيادين في عرض البحر، لتبدو الرحلة وكأنها طقس قديم يتكرر مع كل يوم جديد.


أسرار وكنوز 
يشير عميد الصيادين الذي امتهن الصيد منذ نعومة أظافره إلى أنه أدرك أسرار البحر قبل أن يتجاوز العاشرة من عمره، وأصبح قائداً ويملك سفينة كبيرة قبل أن يكمل الـ15 ربيعاً. بتحضير قاربه الصغير وشباكه بدقة اعتادها منذ صباه عندما قاد أولى رحلاته وهو في العاشرة، يباشر أبو شبص عادة رحلته؛ ليتخذ من البحر معلماً له في الصبر والمثابرة والوصول إلى الأهداف بما زرعه في قلبه شغفاً لا يخمد.
يقول: «لطالما شكل البحر مصدر الحياة عند سكان الشارقة، الذين اختاروا أن يخوضوا مغامرة غير عادية في أعماق مياه المحيط بحثاً عن كنوز نادرة، في تلك الأيام».
ويضيف: «لم يكن البحر بساطاً أزرق فقط؛ بل كان عالماً غامضاً يحتفظ بأسراره العميقة، وكان اللؤلؤ تلك الجواهر الفريدة التي تختبئ في أعماق المحار، لتصبح حلماً ينبض في قلوب الغواصين».
ويعد الغوص من أجل اللؤلؤ فناً بحد ذاته، يتطلب براعة ومهارة وشجاعة نادرة، وكما يروي البحارة، فإن الغواصين كانوا يرتدون ملابسهم التقليدية، ويستعينون بأوزان ثقيلة ليتعمقوا في قاع البحر، متطلعين إلى نغمات البحر التي تروي حكاياتهم عبر الأمواج، وكانوا يغوصون ويعودون إلى السطح محملين بقصص عن الأحلام المفقودة والكنوز المكتشفة.
وثمة طقوس يذكرها أبو شبص في الغوص على اللؤلؤ، تتمثل في تجمع البحارة مع وجود أهاليهم على الجهة المقابلة من الشاطئ لتوديعهم، للاستعداد لرحلة نحو الهيرات وهي «مواقع تجمع محار اللؤلؤ»، وعندها يعلن السردال، وهو قائد أسطول السفن، بدء رحلة الانطلاق يرفع النهام صوته منشداً الأشعار بصوته الشجي لانطلاق الرحلة التي تمتد إلى ما قد يزيد على 4 أشهر.


حكواتي القصص 
بعد انتهاء رحلة الصيد يتحول الميناء إلى مهرجان من النشاط والحركة؛ إذ تُعرض الأسماك التي جادت بها الشباك والقراقير على الساحل، من مختلف الأنواع كالهامور والكنعد والجش، وسلطان إبراهيم، وغيرها ليتقاسمها الجميع بكل ود.
ويوزع حصاد الصيد على كل الموجودين، حتى الذين لم يشاركوا فيه، وتعد الأطباق البحرية الشهية التي تعد جزءاً لا يتجزأ من المائدة الإماراتية.
وبينما يسترسل أبو شبص سرده تداعت له صورة منذ الماضي: «بعالم البحر، ومنذ زمن الطيبين لم ينم بيننا جائع». 
بالنسبة لأبو شبص، البحر ليس فقط مصدر رزق؛ بل هو مكان للتأمل واكتشاف الذات. يعود من كل رحلة حاملاً معه صيداً وفيراً وأفكاراً جديدة، فهو يرى في البحر معلماً وحكواتياً يروي له دروس الحياة، ويجدد له في كل مرة علاقته بالطبيعة والوجود. 
ومع مرور السنوات، أصبحت رحلات عميد الصيادين جزءاً من التراث البحري، وشخصيته رمزاً للأجيال الشابة التي تسير على خطى الأجداد، محملين بالأمل والشغف، يستمدون من البحر قصصاً تعزز إرثهم وهويتهم. 
في نهاية كل يوم، حين يعود أبو شبص إلى الشاطئ، تظل أمواج البحر خلفه كأنها تودعه، على وعد بلقاء جديد مع الشروق، لتكتب مغامرة جديدة، وتُضيف فصولاً أخرى إلى حكايته الطويلة مع البحر.

 

أخبار متعلقة :