جريدة جريدة وطني

توسيع ومستقبل أوروبا

يعدّ توسيع الاتحاد الأوروبي من أبرز القضايا التي تشغل الأوساط السياسية في أوروبا والعالم. هذه العملية ليست مجرد إضافة دول جديدة إلى الاتحاد، بل هي استثمار استراتيجي يهدف إلى تحقيق الاستقرار السياسي، وتعزيز التعاون الاقتصادي، وتقوية الأمن الجماعي في القارة الأوروبية، لكن تتباين مواقف الدول الأعضاء حول مسألة التوسع بناءً على رؤاها الوطنية واحتياجاتها الخاصة.
يتناول كتاب «توسيع الاتحاد الأوروبي ومستقبله: رؤى من العواصم» موضوعاً بالغ الأهمية في السياق الجيوسياسي الأوروبي الحالي، حيث يعرض الرؤى الوطنية لدول الاتحاد الأوروبي وجيرانه في ما يتعلق بسياسات توسيع الاتحاد. يضم الكتاب دراسات لـ41 دولة، تتناول تاريخ كل دولة في هذا السياق، وسياساتها، والتصورات العامة حول التكامل الأوروبي. في ظل الحرب الروسية على أوكرانيا، أعاد هذا الحدث إحياء الدافع نحو توسيع الاتحاد الأوروبي ليشمل جيرانه الشرقيين ودول البلقان، ويبرز الكتاب كيفية تنوع الآراء الوطنية بشأن هذا التوسع، والتحديات التي تقف في طريق تحقيقه.
منذ بداية الكتاب، يقدم المحررون الثلاثة، مايكل كايدنغ، ويوهانس بولاك، وبول شميت، تحليلاً للتفاعلات بين الدول الأعضاء حول التوسع، ويعرضون كيف تختلف رؤى الدول الأوروبية بشكل كبير فيما يتعلق بتوقيت التوسع، وشروطه، والإصلاحات الضرورية لتسهيل انضمام الدول الجديدة، خاصة دول البلقان الغربية وجيران الاتحاد في الشرق مثل أوكرانيا وجورجيا. تكمن الأهمية الكبيرة لهذا التوسع ليس فقط في كونه استثماراً في السلام والاستقرار، ولكنه أيضاً كأداة سياسية تستخدمها الدول الأوروبية لمواجهة الضغوط الداخلية والخارجية.
تعكس إشكاليات التوسع في الاتحاد الأوروبي مجموعة من التحديات التي تواجه عملية دمج دول جديدة في الاتحاد. من أبرز هذه الإشكاليات التفاوت الاقتصادي، حيث تعاني الدول المرشحة، خصوصاً في البلقان وأوروبا الشرقية، بنى تحتية ضعيفة ومعدلات نمو أقل مقارنة بالدول الأعضاء الحالية. هذا التفاوت يمكن أن يؤدي إلى نزوح العمالة وزيادة التوترات الاجتماعية داخل الاتحاد. إضافة إلى ذلك، تفرض عملية التوسع على الدول المرشحة تنفيذ إصلاحات سياسية وقانونية واسعة لضمان توافقها مع معايير الاتحاد المتعلقة بالديمقراطية وحقوق الإنسان، وهي إصلاحات قد تستغرق سنوات وتواجه مقاومة داخلية.
على المستوى المؤسسي، يثير التوسع مخاوف حول فعالية اتخاذ القرار داخل الاتحاد، حيث قد تؤدي زيادة عدد الأعضاء إلى تعقيد عملية صنع السياسات. إلى جانب ذلك، يطرح التوسع تحديات ثقافية واجتماعية، حيث يتعين على الاتحاد التعامل مع التنوع الثقافي للدول الجديدة دون المساس بالقيم الأوروبية الأساسية. وفي السياق الجيوسياسي، تواجه بعض الدول المرشحة مخاطر أمنية بسبب موقعها الجغرافي، مثل أوكرانيا وجورجيا، اللتين تشتركان في صراعات مع قوى مثل روسيا، مما يجعل دمجها يتطلب نهجاً حذراً لتجنب تصعيد التوترات. رغم ذلك، يقدم الكتاب توصيات عملية للحكومات الوطنية وللاتحاد الأوروبي حول كيفية التعامل مع تحديات التوسع بشكل أكثر إنتاجية؛ فهو يوضح أن سياسات التوسع ليست مجرد عمليات إدارية أو سياسية بحتة، بل هي ضرورة استراتيجية في مواجهة القوى المعادية للديمقراطية التي تستغل نقاط الضعف في العلاقات بين الدول الأعضاء وجيرانها.
تقدم الفصول تحليلاً متنوعاً لمواقف دول الاتحاد الأوروبي المختلفة تجاه عملية التوسع. ويقدّم كل فصل رؤية فريدة تعكس تاريخ كل دولة وظروفها الخاصة. ومن بين هذه الفصول المهمة نجد تحليلات معمقة لرؤى النمسا، بلجيكا، بلغاريا، كرواتيا، قبرص، وإستونيا، والتي تكشف عن اختلافات وتنوعات في المواقف والسياسات.
الموقف النمساوي والبلجيكي
في الفصل الذي أعدته كاترين أويل وبول شميت، تبرز النمسا رؤية واضحة بشأن ضرورة الجمع بين توسيع الاتحاد الأوروبي وإجراء إصلاحات مؤسسية داخل الاتحاد. تُعد النمسا من الدول التي ترى أن توسيع الاتحاد يجب أن يترافق مع تحسين البنية الداخلية له، لضمان استمرارية التكامل الأوروبي وعدم التضحية بالكفاءة المؤسسية. تهدف هذه الإصلاحات إلى تعزيز مرونة الاتحاد في مواجهة التحديات، خاصة في ظل الأوضاع المتغيرة في القارة الأوروبية والتي تتطلب بنية إدارية أكثر قدرة على التعامل مع الأزمات. بالنسبة للنمسا، فإن التوسع دون إصلاحات جادة قد يؤدي إلى زيادة الأعباء على مؤسسات الاتحاد، مما يعرقل تحقيق الأهداف الاستراتيجية الكبرى للاتحاد على المدى البعيد.
ويقدّم جان لويس دي بروير في فصل آخر تحليلاً شاملاً لرؤية بلجيكا التي تعتبر أن التوسع يجب أن يخضع لإصلاحات جوهرية. بلجيكا، كونها من الدول المؤسسة للاتحاد الأوروبي، ترى أن التوسع لا ينبغي أن يكون مجرد عملية لضم أعضاء جدد، بل يجب أن يترافق مع تعزيز مبادئ الاتحاد الأساسية، مثل الديمقراطية وسيادة القانون. وفقاً لبروير، فالتوسع في حالته الراهنة يعاني بعض المشكلات التنظيمية التي قد تؤثر في فعاليته على المدى الطويل. يدعو هذا الفصل إلى نهج شامل يعزز من شفافية وفعالية عملية التوسع، مع التركيز على معايير أكثر وضوحاً للعضوية.
كرواتيا بين الحماس والواقع
يتناول هرفوي بوتكوفيتش في فصل التناقض الذي تعيشه كرواتيا بين الحماس الرسمي لدعم التوسع والتحديات الواقعية التي تواجهها البلاد. كرواتيا، التي انضمت إلى الاتحاد الأوروبي في عام 2013، تُظهر حماساً لدعم الدول المرشحة، وخاصة في منطقة البلقان، لتكرار تجربتها الخاصة. ومع ذلك، تعترف كرواتيا بالتحديات العملية التي تواجه التوسع، مثل الحاجة إلى إصلاحات في الدول المرشحة وضمان استدامة اقتصاداتها قبل الانضمام. يسلط بوتكوفيتش الضوء على أن كرواتيا تجد نفسها في وضع حساس بين الحماس السياسي لدعم التوسع والواقع الذي يتطلب استراتيجيات أكثر تفصيلاً لمواجهة التحديات.
النقاش الوطني في قبرص وإستونيا
يستعرض جيورجوس كنتاس في فصل كيفية تعامل قبرص مع سياسات التوسع الأوروبي، وذلك في ظل تعقيدات إقليمية خاصة تتعلق بالصراع القبرصي التركي. يرى كنتاس أن موقف قبرص من التوسع يتأثر بشكل كبير بالصراع المستمر مع تركيا، خاصة أن التوسع الأوروبي يطال دولاً في الجوار المباشر لقبرص. تركز قبرص على ضرورة أن يكون التوسع الأوروبي جزءاً من حل شامل للصراعات الإقليمية في شرق المتوسط، وأن يُسهم في تعزيز السلام والاستقرار في المنطقة.
ويركز فيليار فيبل في فصل آخر على موقف إستونيا الداعم بشدة للتوسيع السريع للاتحاد الأوروبي، خاصة في ظل الحرب الروسية على أوكرانيا. إستونيا، كدولة تتشارك حدوداً مع روسيا ولديها تاريخ طويل من التوترات مع موسكو، ترى في توسيع الاتحاد ليشمل الدول الشرقية مثل أوكرانيا وجورجيا ضمانة إضافية لأمنها القومي. 
يدعو فيبل إلى أن يكون التوسع الأوروبي جزءاً من استراتيجية دفاعية أوسع تهدف إلى تعزيز الأمن في أوروبا الشرقية، معتبراً أن تأخير التوسع قد يؤدي إلى تفاقم التهديدات الأمنية التي تواجهها المنطقة.
في المجمل، يكشف الكتاب عن تنوع واسع في مواقف دول الاتحاد الأوروبي حول التوسع، حيث تتأثر كل دولة بتاريخها الخاص واحتياجاتها الاستراتيجية. هذا التنوع في الرؤى يعكس تعقيد عملية التوسع الأوروبي، ولكنه في الوقت ذاته يُظهر الأهمية الكبرى لهذه العملية في تحقيق استقرار أوروبا وتعزيز مكانتها على الساحة الدولية.

أخبار متعلقة :