جريدة جريدة وطني

رحلة النزوح.. خطوات ثقيلة للمجهول برائحة البارود والموت بمخيم جباليا

نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
رحلة النزوح.. خطوات ثقيلة للمجهول برائحة البارود والموت بمخيم جباليا, اليوم الخميس 28 نوفمبر 2024 08:34 مساءً

شهر من الحصار المطبق على شمال قطاع غزة وتحديداً مخيم جباليا ومدينة بيت لاهيا، شمال قطاع غزة، لم يدع خلالها جنود جيش الاحتلال الإسرائيلي بشرا إلا وقتله أو حجراً إلا ونسفه أو زرعاً إلا وأحرقه، حتى بات المخيم خاوياً على عروشه، عشرات الجرحى والمرضى من الأطفال والنساء والشيوخ، جنود الاحتلال يجبرون الفلسطينيين على النزوح من المعسكر الصامد، الذى كان، ولا يزال، حجر عقبة أمام آليات التوغل والقتل، لتلتقط الكاميرات مشاهد تهجير قسرى، يجر النازحون فيها أقدامهم بخطوات ثقيلة نحو المجهول، فأين الوجهة التالية ورائحة البارود والموت تفوح من كل زاوية؟!

«رحمة»: جنود الاحتلال الإسرائيلى انتزعوا جميع الأطفال من أحضان أمهاتهم وأجبروهن على العودة بآخرين ليسوا بأبنائهن

على أطراف مخيم جباليا صباح اليوم الخامس عشر من الحصار، كانت عشرات الأسر تسير بوجوه شاحبة وهيئة مرهقة لم تذق طعم النوم، ويحمل أفرادها القليل من الحقائب الثقيلة المهترئة والأكياس البلاستيكية التى احتاروا فى ملئها باحتياجاتهم الضرورية والكثير من رائحة وذكريات البلاد، وعلى بعد أمتار قليلة من شارع صلاح الدين الذى يربط شمال القطاع بجنوبه وما إن سلك النازحون طريقاً ترابياً وعراً جراء تجريف الاحتلال له. 

حتى ظهرت الحواجز المعدنية ودبابات الميركافا، حيث كان الأهالى على موعد مع مغامرة جديدة من نوعها، ووفق رحمة الكحلوت، 30 عاماً، تفاجأت السيدات بأوامر التوقف عن السير ووجود حفرة كبيرة وعميقة، لينتزع الجنود جميع الأطفال من أحضان أمهاتهم ويضعوهم داخل ما يشبه الحلبة: «إحنا كنا واقفين مش فاهمين شىء وفجأة جاءت الدبابة وكانت تمشى بسرعة كبيرة وتلف حوالين الأطفال، وصارت غبرة كثيفة جداً، لحد ما اتغطوا بالرمل وسط صراخ الأطفال وعويل الأمهات. 

بعد ذلك جاء الجنود وقاموا برمى الأطفال تجاه تجمع الأمهات، وكل سيدة أمسكت طفل لازم تحمله وتمشى بسرعة، ومش شرط أن يكون الولد اللى أخذته ابنها وغير مسموح تدور على طفلها وإلا سيتم إعدامها»، وتحكى «رحمة» أن الكثير من الأمهات حملن أطفالاً ليسوا بأطفالهن، وهنا يبدأ فصل جديد من المعاناة.

«شيماء»: باغتونا بالقذائف وسقط منا شهداء وعبرنا ممراً مرصوفاً بجثث الشهداء.. وداست قدماي على أمعاء الضحايا

شيماء حجازى، نازحة من بيت لاهيا، وصلت قبل أيام قليلة إلى حى النصر غرب مدينة غزة، أخرجها الجنود من أحد مراكز الإيواء تحت تهديد السلاح، وتقول صاحبة الـ27 عاماً، إنه على الرغم من استجابة الأسر، فإن الاحتلال باغتهم أثناء النزوح بالقذائف ما تسبب فى مقتل عدد منهم وإصابة آخرين.

وتقول بصوت متعب: «كانت الآليات فى كل مكان، ولم يكن لنا مكان للعبور إلا ممر مرصوف بجثث الشهداء، وداست قدماى فى أمعاء أحد الضحايا، وأنا ماشية اتعثرت برأس شهيد كان مرمي زى الكورة فى نص الطريق وقطع اللحم الصغيرة متناثرة فى كل مكان، لدرجة إنها كانت مرشوقة على الجدران!».

«جنات»: اضطررنا لقطع مسافات طويلة.. وطلبت من جندى كوب ماء فأشهر سلاحه بوجهى

مع بزوغ شمس يوم الخميس الموافق 24 من شهر أكتوبر الماضى، كانت جنات نوفل، 22 عاماً، تلملم أغراضها المبعثرة على عجل، بينما ينشغل أفراد أسرتها الثمانية فى حمل الحقائب واستراق النظر من خلف النوافذ التى اخترقها الرصاص خلال أيام الحصار. 

بعدما انتبهوا لمكبرات الصوت التى نادى من خلالها جنود الاحتلال الإسرائيلى على سكان مخيم جباليا للخروج من منازلهم وأماكن نزوحهم فى المدارس ومراكز الإيواء، ليغادروا شمال قطاع غزة تحت زخات الرصاص وقصف الطائرات دون رجعة نحو المجهول، لم تكن تتخيل «جنات» التى صمدت فى منزلها المدمر بعد استهدافه قبل عام من اليوم، لتقيم على أنقاضه وبين حجارته المتناثرة أن يصبح مخيمها ومسقط رأسها شيئاً من الماضى، وتحكى «جنات» كيف خرجت من تحت ركام بيتها المكون من ثلاثة طوابق، وفقدت عائلة خالتها وتعرضت للمجاعة، و«رغم هيك ولا مرة فكرت أو خطر ببالى أترك الشمال، لكن اليوم الاحتلال أجبرنا على الهجرة القسرية».

تشرد «جنات» بنظرها بعيداً نحو السماء، بينما تمتلئ عيناها بالدموع: «نزحت مع أهلى أكثر من عشر مرات داخل جباليا، ولكن هاى المرة وأنا طالعة من المخيم كانت مختلفة، كانت الأصعب والأقسى، قلبى كان بيفرفط وهيخرج من جسمى من كمية القهر والحزن والألم». 

«رحلة الموت» كما تصفها بدأت بتوجه الأهالى إلى طريق النزوح الذى حددته قوات الاحتلال بالتحرك من شارع بيت لاهيا العام: «اتجمعنا حسب ما طلبوا منا فى المناشير اللى رموها علينا، وبمجرد ما بدأنا فى المشى لقينا طيارات الكواد كابتر فوق راسنا والآليات محاصرانا من الجوانب، ونادوا بالمكبرات الصوتية النساء تمشى مع أغراضها والرجال لنقطة الفحص والتحقيق فى مدرسة على جانب الطريق».

لا تعلم «جنات» مصير عشرات الرجال الذين أجبروا على الدخول إلى إحدى المدارس التى يتمركز فيها جنود الاحتلال، بخاصة بعد انتشار صور لهم وهم مجردون من ملابسهم ويجلسون على الأرض: «كان جنود الاحتلال يدفعون بالذكور إلى حفرة كبيرة بجانب مراكز الإيواء قرب المستشفى الإندونيسى، ويتم إطلاق النار عشوائياً داخل الحفرة».

وواصلت: «لا أستطيع وصف صعوبة الطريق، كان رملياً ومليئاً بالمطبات والحفر وجبال طويلة صعب جداً المشى فيها وخاصة مع حمل أغراض وحقائب ثقيلة وممنوع استعمال أى وسيلة نقل، وغير مسموح نتوقف للاستراحة وإلا سيتم قتلنا»، وبعد نحو ساعة من السير شعرت الفتاة بتعب وإرهاق لتحاول التوقف للحظة لالتقاط أنفاسها. 

وتحكى: «وقفت بس ثوانى من شدة التعب وكنت ألهث بسرعة وأشعر بظهرى يتمزق من ثقل الحقائب والعطش يكاد يقتلنى، فأشرت للجندى فى أعلى الدبابة رد على موجهاً سلاحه نحوى ورجوت منه كوب ماء واحداً فقط، فرمقنى بنظرة مليئة بانعدام الإنسانية والحقد الدفين وأشار بيده بتهديد أن أكمل المسير وأمشى فنسيت العطش من الخوف لحظتها ومشيت»، لتستغرق رحلة النزوح من مخيم جباليا شمال غزة وصولاً إلى غرب القطاع نحو ثلاث ساعات: «خرجنا الساعة 9 صباحاً ووصلنا الساعة 12 ظهراً، ومن صعوبة الطريق والتعب كان هناك الكثير من الحقائب والأكياس من أغراض النازحين المتجهين من الشمال لغرب غزة مرمية على جانب الطريق، لأن الكثير من الناس كانوا بيتركوا أغراضهم بالشارع لتخفيف الحمل لأن الطريق وعرة للغاية وطويلة جداً». 

أمعن الاحتلال فى إذلال النازحين وتدمير حالتهم النفسية، فالجنود يستخدمون الممرات التى يدعون أنها آمنة كوسيلة لتهجير الفلسطينيين من ديارهم تحت سيف التهديدات، ولكن فى حقيقتها فهى مصيدة لاستهداف الفلسطينيين وقتلهم، بحسب «جنات»، وتكمل صاحبة الـ22 عاماً بصوت منخفض ومنهك قصة وصولها إلى غزة، بعد كل تلك الأهوال: «أنهينا الطريق الذى ظننت أنه لن ينتهى وأخيراً وصلنا إلى غزة وجدنا أهلها يستقبلوننا بالماء والخبز والتهنئة بالسلامة، وأنا أنظر بتعجب كيف لأهل هذه المدينة التى تصرخ قلوبهم بالرحمة والإنسانية أن يحتلهم عدو جاحد كهذا ويعذبهم هذا العذاب»، إلا أن أكثر ما تفكر به «جنات». 

ويشغل بالها هو نزوحها رفقة عائلتها من بيتها فى جباليا تاركة شقيقها الأكبر «عمر» وحيداً داخل قبره الذى دفن فيه أمام عتبة منزلهم المدمر عقب استشهاده فى السابع من أكتوبر الماضى، وفى ذكرى مرور سنة على العدوان أثناء إسعافه لجيرانهم الذين استهدفتهم الصواريخ فى مجزرة راح ضحيتها أكثر من 50 فلسطينياً تحولت جثامينهم إلى أشلاء: «من شدة القصف والحصار ما قدرنا نطلع ندفن عمر فى مقابر المخيم، وبكيت كتير وإحنا تاركين أخوى لحاله وماشيين، ودّعته بدموعى وحضنت شاهد القبر ووعدته إننا هنرجع ونعمر البلد اللى بذل دمه وفقد حياته فى سبيلها كرمال تتحرر». 

أخبار متعلقة :