«بحبك يا لبنان».. بصيص حياة وسط دوي الغارات في صور

الخليج 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

إعداد ـ محمد كمال

رغم زخم التغطيات الإعلامية للحرب الدائرة بين إسرائيل وحزب الله على مدار الساعة، فمن الواضح أنها لم تتعمق إلى مواطن أوجاع اللبنانيين الذين أجبروا على النزوح من منازلهم في الجنوب، وترك حياتهم خلفهم، أملاً في العثور على ملجأ يقيهم شر الضربات المدمرة والصراع المتصاعد، والذي لا تضح له معالم نهاية قريبة، في الوقت الذي تحدى البعض هذه الضربات وقرروا البقاء، وخصوصاً كبار السن، الذين يقولون «إذا كنّا سنموت، فلا يهم أين».
وفي مدينة صور تلك الحاضرة العالمية عبر التاريخ، تتمثل المأساة اللبنانية المحتملة في حال اتساع نطاق الموجهات، حيث أضحت المدينة الساحلية في الجنوب اللبناني خاوية على عروشها، لكن كان من بين المشاهد التي جذبت أنظار مراسل صحيفة واشنطن بوست الأمريكية، أنه بينما كانت الطائرات الحربية الإسرائيلية تحلق في سماء المنطقة وتسقط قنابلها على ضواحي المدينة، جلس رجل على البحر دون قميصه، وهو يرتاد الشاطئ وحيداً في مكان فر منه معظم الناس، وكأنه لا يسمع سوى صوت فيروز المتسرب من وسط دوي الطائرات وهي تقول: «بحبك يا لبنان يا وطني بحبك.. بشمالك، بجنوبك، بسهلك بحبك».
وتم إخلاء مدينة صور بسرعة جنونية بسبب الغارات الجوية والحرب والخوف من أن الأمور ستزداد سوءاً، ولم يبق في المدينة سوى سكانها الأكثر تصميماً وتحدياً، بعد أسابيع من بدء الحملة العسكرية الإسرائيلية. ولم يعد يظهر بها سوى القليل من الأضواء المضاءة في المباني السكنية والمحال التجارية في المدينة، فيما أغلقت المطاعم وبعضها تحطمت نوافذها.
ومن بين من بقي في صور الأطباء والممرضون في مستشفيات المدينة، والمتطوعون في قوة الدفاع المدني، ويقول حسن دبوق، رئيس بلدية صور، إن من بين المتحدين بعض السكان من كبار السن، حيث يعتقد بعضهم أنه «إذا كانوا سيموتون، فلا يهم أين سيموتون».
ويقول أحد المسؤولين المحليين إنه سمع أن بعض الناس يعودون إلى المنطقة المعرضة للخطر، بعد أن نفد منهم المال اللازم للإيجار في مناطق أكثر أماناً في البلاد، وتعبوا من الاعتماد على الأعمال الخيرية. وذكر أن عائلة فرت من المنطقة وتوجهت إلى بيروت، لتموت في غارة جوية إسرائيلية على العاصمة الأسبوع الماضي. وأضاف: «لذا، لا يوجد مكان آمن».
وبحسب التقرير فإن المشاهد المقفرة في رابع أكبر مدينة في لبنان، هي لمحة عمّا يمكن أن يعنيه انتشار الحرب بين إسرائيل وحزب الله بالنسبة للبلاد، حيث فر الكثيرون بالفعل من منازلهم ويكافحون من أجل العثور على مكان آمن.
وبينما تحاول القوات الإسرائيلية التقدم، فقد أصدرت أوامر إجلاء في معظم قرى ومدن الجنوب اللبناني، بما في ذلك المناطق الواقعة إلى الشمال والشرق والجنوب من مدينة صور. ورغم أنه لم يصدر بعد أمر لسكان المدينة بالمغادرة، ولكن مع انتشار الغارات الجوية الإسرائيلية بشكل مطرد في جميع أنحاء المدينة، يبدو أن الأمر مجرد مسألة وقت. والأسبوع الماضي أمر الجيش الإسرائيلي الناس بالابتعاد عن جزء كبير من ساحل البحر الأبيض المتوسط ​​في لبنان، الممتد من مدينة صيدا، شمال صور، إلى الحدود مع إسرائيل في الجنوب.
ويقول رئيس بلدية المدينة إن قصفاً إسرائيلياً أدى إلى سقوط شظايا على الشاطئ، ما أسفر عن مقتل طلال طحلة، وهو حلاق في الستينات من عمره. وفي مدينة كان عدد سكانها قبل الحرب أكثر من 125 ألف نسمة، لم يكن من الواضح عدد العائلات التي بقيت. وقدر طبيب في مستشفى محلي أن ما بين 40 و50 عائلة لا تزال في صور. وقال مسؤول محلي إنه لم يتبق سوى «عدد قليل جداً» من الأشخاص.
وإذا كانت هناك جيوب من الحياة، فهي تشمل اثنين من مستشفيات المدينة، التي مرت بفترات من الفوضى المستمرة على مدى الأسابيع الثلاثة الماضية، ولحظات أخرى تمكن فيها الأطباء من أخذ قسط من الراحة. ويقول عبدالناصر فران، الجراح في مستشفى حيرام الذي عمل خلال صراعين سابقين مع إسرائيل، في عامي 1996 و2006، «الخروج ليس آمناً.. لقد اختفت غالبية مدينة صور».
وعن بداية الأحداث مع تفجيرات أجهزة البيجر، يقول إن العمليات المكثفة بدأت في المستشفى عندما قامت إسرائيل بتفجير أجهزة الاستدعاء المفخخة التي يستخدمها أعضاء حزب الله، ووصل الجرحى دفعة واحدة، ويضيف: «كان لدينا 200 مصاب هنا في خمس دقائق». ومع تصعيد إسرائيل لحملة القصف، بدءاً من 23 سبتمبر/أيلول، بدأ المستشفى يستقبل نحو 40 إلى 50 يومياً من بينهم «نساء، وأطفال، ورجال، وشباب»، على حد قوله.
ويوضح الطبيب أنه «لقتل أحد أعضاء حزب الله، فإن الضربات الإسرائيلية قتلت أو أصابت الكثير من المدنيين».
ويضيف الطبيب أن المستشفى الذي يضم 110 أسرة كان به أربعة جراحين في بداية الأزمة، ثم اثنان، والآن أصبح هو بمفرده. وقال إنهم سيكونون على ما يرام إذا جاء المرضى على فترات زمنية معقولة، ولكن ليس إذا «استقبلوا مصابين بإصابات خطرة في نفس الوقت».

مخيمات الفلسطينيين


وقالت وكالة اللاجئين التابعة للأمم المتحدة في بيان إن المنطقة تستضيف ما لا يقل عن ثلاثة مخيمات للاجئين الفلسطينيين، لكن معظم الأشخاص في المخيمات «غادروا بحثاً عن الأمان والحماية في مكان آخر». وكانت الأونروا، قد علقت معظم عملياتها في المخيمات في وقت سابق من هذا الشهر بسبب نزوح موظفيها أيضاً. وقالت الوكالة إن أولئك الذين بقوا في المخيمات حصلوا على كميات متضائلة من الماء والكهرباء والغذاء.
وقال علي صفي الدين، رئيس الدفاع المدني في صور، إن المقر تلقى اتصالاً هاتفياً، بعد وقت قصير من بدء حملة القصف الإسرائيلية الشهر الماضي، من رقم دنماركي يحذر الموظفين بضرورة الفرار من المبنى، وبعد جدال مع الرجل الذي كان يتحدث العربية بالكاد أصر على مطلبه.
ويكشف صفي الدين أنه أخذ التهديد على محمل الجد. ويوضح أنه خلال حرب عام 2006، قُتلت ابنته الرضيعة لين في غارة إسرائيلية على مقر الجماعة. وجهها موشوم على ذراعه . وأضاف أن زوجته أصيبت بجروح بالغة في نفس الغارة.
ـ مجاعة تلوح في الأفق ـ
ويحذر مايكل فخري، المقرر الخاص الأممي المعني بالحق في الغذاء، من أن الهجوم العسكري الإسرائيلي يهدد بتكرار المجاعة التي شهدناها في غزة، موضحاً أنه يمكن أن ترتفع معدلات الجوع وسوء التغذية «بشكل كبير» في لبنان، إذا واصلت إسرائيل تهديداتها بتصعيد العملية العسكرية الحالية التي أسفرت حتى الآن عن مقتل أكثر من 2000 شخص وتشريد ما يصل إلى مليون شخص.
وقال مايكل فخري لصحيفة الغارديان البريطانية، «إن إسرائيل لديها القدرة على تجويع لبنان – مثلما قامت بتجويع الفلسطينيين في غزة.. إذا نظرت إلى جغرافية لبنان، ستجد أن إسرائيل لديها القدرة على خنق النظام الغذائي بشكل مطلق. هناك خطر كبير من ارتفاع معدلات الجوع وسوء التغذية بسرعة كبيرة في لبنان».
ومن الممكن أن ترتفع معدلات الجوع الحاد بسرعة كبيرة، لأن الأمن الغذائي في لبنان كان محفوفاً بالمخاطر حتى قبل أن تشن إسرائيل قصفها الجوي واسع النطاق في منتصف سبتمبر/أيلول، حيث أدت الأعمال القتالية إلى نزوح 40% من المزارعين المحليين، ما أدى إلى تعطيل الإنتاج المحلي، إضافة إلى عرقلة التدفقات التجارية والوصول إلى الأسواق، وفقاً لبرنامج الأغذية العالمي التابع للأمم المتحدة.
وأصبح الحصول على الغذاء الكافي تحدياً متزايداً، حيث اضطرت مجتمعات بأكملها إلى ترك منازلهم وأراضيهم الزراعية في جنوب لبنان، وتعرض المناطق المدنية في بيروت لهجوم جوي مكثف. وفي يونيو/حزيران، أضافت الأمم المتحدة لبنان إلى قائمتها لمناطق الجوع الساخنة، محذرة من أن ربع السكان يواجهون مستويات حادة من انعدام الأمن الغذائي وسط الصراع المحتدم، وارتفاع معدلات التضخم، وارتفاع أسعار القمح العالمية، وتناقص المساعدات الإنسانية لـ 1.5 مليون لاجئ سوري في لبنان إضافة إلى اللاجئين الفلسطينيين.
وقال فخري: «المجاعات من صنع الإنسان وهي دائماً نتيجة لتجويع مجموعة أخرى، لذلك يجب أن تُفهم دائماً على أنها مشكلة سياسية». واستطرد بالقول: «هناك أدلة واضحة على أن المسؤولين الإسرائيليين استخدموا التجويع كجريمة حرب وجريمة ضد الإنسانية - وهي انتهاكات أساسية للقانون الدولي دون استثناء. تتسبب المجاعة في أضرار جسدية ونفسية دائمة للناجين، وقد تسبب الضرر للأجيال القادمة. لا يمكنك تشغيل وإيقاف المجاعة مثل وقف إطلاق النار».


 تجويع أخطر من الحرب العالمية


وقال تقرير فخري الذي نشر في يوليو/تموز، إنه لم يحدث قط في تاريخ ما بعد الحرب العالمية الثانية أن عانى السكان الجوع بهذه السرعة وبشكل كامل كما كان الحال بالنسبة لـ 2.3 مليون فلسطيني يعيشون في غزة. ووصلت بعض المساعدات إلى غزة لكن جماعات الإغاثة الإنسانية تقول إن جزءاً فقط مما يحتاج إليه المدنيون الفلسطينيون للبقاء على قيد الحياة هو الذي يصل. وتقول إسرائيل إن المساعدات تصل إلى غزة لكن لا يتم توزيعها.
وكان فخري أول من دق ناقوس الخطر في منظومة الأمم المتحدة من خطر الإبادة الجماعية من خلال المجاعة في غضون أسابيع من بدء الصراع. ويجادل بأن الكارثة الإنسانية في غزة لم تبدأ في 7 أكتوبر/تشرين الأول.
ويوضح: «يستغرق الأمر سنوات من الاختيارات السياسية، ودرجة كبيرة من القوة العسكرية والمالية، لتتمكن من تجويع شعب آخر. كما يتطلب الأمر نظاماً دولياً يتيح حدوث ذلك، وبالتالي فإن الدول التي تواصل إرسال الأموال والأسلحة إلى إسرائيل تتحمل أيضاً المسؤولية».
ورفضت إسرائيل مراراً الاتهامات بارتكاب إبادة جماعية، وألقت باللوم على حماس في أعمال العنف والمعاناة في غزة، وقالت إنه تم السماح بدخول المزيد من المساعدات إلى القطاع. ولم تستجب الحكومة لطلبات الرد على تصريحات فخري.
ويعتبر تقرير فخري إلى الأمم المتحدة أن المجاعة انتهاك للقانون الدولي يمكن أن تتحمل الدول والشركات المسؤولية عنه أمام محكمة العدل الدولية والمحاكم المحلية. وفي الوقت الحالي، تفهم المجاعة بشكل صارم على أنها انتهاك للقانون الإنساني، وجريمة حرب لا يمكن محاكمة سوى الأفراد بسببها.
وينتج العالم ما يكفي من الغذاء لإطعام ما يعادل مرة ونصف عدد السكان الحاليين، ومع ذلك فإن انتشار الجوع وسوء التغذية والمجاعة آخذ في الارتفاع. ومع وصول الحرب إلى مرحلة جديدة، فإن فهم ما يحدث، وما سيأتي بعد ذلك، أصبح أكثر أهمية من أي وقت مضى.

أخبار ذات صلة

0 تعليق